في محاولة لإنقاذ الأرض..

رجال حول المانجروف





يبحث العالم الآن عن منفذ؛ ضوء في نهاية نفق التغيرات المناخية التي تعصف به، رئة صالحة يتنفس بها البشر بدلاً من الهواء المُعبأ بالملوثات، المساعي مستمرة لإنقاذ الأرض، وبين المحاولات كانت لمجموعة من الرجال قصة مع غابات المانجروف في مصر؛ فرغم وجوده على ساحل البحر الأحمر منذ آلاف السنين فإنهم أعادوا إحياءه، نسجوا الأحلام حوله، تعاونوا فيما بينهم؛ الباحثون والمهندسون الزراعيون والعُمال والصيادون لهم هدفٌ واحد؛ أن يكون المانجروف ملجأ لحماية مصر من التغيرات المناخية وطريقاً اقتصادياً واعداً للسكان المحليين والدولة.

لا يزال شريط الذكريات يمر أمام عيني المهندس رجب سنوسي كأنه أمس عن بداية علاقته مع المانجروف "قالوا لنا في الإدارة المركزية للتشجير في وزارة الزراعة إن فيه مشروع مع منظمة الفاو العالمية لإعادة استزراع وتأهيل 6 مناطق للمانجروف في مصر فتحمست للفكرة" كان ذلك في عام 2003.

المصدر: منظمة الأغذية والزراعة بالأمم المتحدة (الفاو)
دراسة عن جيوموفولوجية مستنقعات المانجروف على ساحل البحر الأحمر في مصر والمنشورة في مجلة كلية الآداب جامعة القاهرة

المصدر: منظمة الأغذية والزراعة بالأمم المتحدة (الفاو)
دراسة عن جيوموفولوجية مستنقعات المانجروف على ساحل البحر الأحمر في مصر والمنشورة في مجلة كلية الآداب جامعة القاهرة

سنوسي من الرعيل الأول للمشروع، تلقف المعلومات الأساسية عن النبات وحُفرت في رأسه؛ درس موسم البذرة؛ فنوع الشورا (الأفيسينا مارينا) يُنتج في أبريل/نيسان ومايو/أيار، أما القندل (ريزيفورا ماكروناتا) فميقاته مع أغسطس/آب، تعلم كيف يعبئ أكياس البذور ونظام عمل الصوب؛ إذ تحتاج البذرة لنحو عام كامل "وذروة الموسم بتاعنا من أبريل/نيسان حتى أكتوبر/تشرين الأول".

ينمو المانجروف في مصر بست وعشرين نقطة على ساحل البحر الأحمر، يضع قدماً في الماء وأخرى في البر، له خصائص متفردة لحماية البيئة وامتصاص الكربون وتثبيته وحماية الشواطئ من التآكل وتوفير التنوع البيولوجي المطلوب للكائنات الحية سواء البحرية أو الطيور أو الكائنات الدقيقة في التربة كما أن أزهاره الغنية تصلح لإنتاج العسل الفاخر، وتنتمي أشجار المانجروف في مصر إلى أحد نوعين؛ الأول هو الأفيسينيا مارينا وهو الأكثر وفرة، والنوع الآخر هو ريزيفورا ماكروناتا وموجود على حدود مصر مع السودان بكميات أقل من النوع الأول.

عام 1995 كان دكتور سيد خليفة، نقيب الزراعيين حالياً ومدير مشروع استزراع المانجروف، مسؤولاً ضمن فريق عمل عن حصر للموارد الطبيعية بمنطقة جنوب شرق مصر، لم يكن يعرف وقتها عن النبات إلا القليل حتى رأى بعض الأشجار على ساحل البحر الأحمر "أتذكر أنني أوقفت السيارة وفتحت ما معي من كتب عن الغطاء النباتي للمنطقة للتعرف على تلك الشجرة". كانت تلك البداية، ولم يكد يعود للقاهرة حتى استغرق في البحث عنه.


تعرّف خليفة على المانجروف بصورة أوسع، قرأ كل ما يستطيع عنه، أخذ الكثير من العينات الموجودة في الأشجار ليعرف المواسم الأنسب للإكثار، حتى إنه سافر إلى كينيا لمعاينة النبات على الطبيعة "إذ إن كينيا يتوفر فيها 12 نوعاً مختلفاً من المانجروف"، حسبما يقول خليفة، كما أن الأشجار تنمو هناك طوال العام بسبب استوائية المناخ "لكنني قررت أن أحاول نقل تجربة استزراع المانجروف إلى مصر في منطقة سفاجا على ساحل البحر الأحمر"، فكان عام 2003 البداية الفعلية لمشروع استزراع المانجروف الذي قام عليه مركز بحوث الصحراء.

على مدار السنوات التالية، كوّن نقيب الزراعيين فريقاً متنوعاً للعمل بالمشروع، وأرادوا استزراع المانجروف في جنوب سفاجا وكان للاختيار سبب واضح "وهو أن المنطقة التي استزرعنا فيها داخل سفاجا قريبة من مصنع فوسفات البحر الأحمر، ما يمثل غذاءً رائعاً لتربة المانجروف"، ما يُعطي نتيجة أفضل وأسرع.

جهات مختلفة ساعدت الفريق على مدار رحلة الاستزراع وإعادة التأهيل، أوّلها المنظمة الدولية للغابات الاستوائية التي دعمت المشروع فنياً وتدريبياً من 2003 وحتى 2007، أما الدعم المالي للأبحاث والزيارات الميدانية فقد كان من أكاديمية البحث العلمي بتمويل قدره نحو 2 مليون جنيه منذ 2015، إذ وصل عدد شتلات المانجروف التي تم استزراعها منذ عام 2003 إلى 50 ألف شتلة، نجح الفريق في إنماء نحو 80% منها في مواقع البحر الأحمر المختلفة على مدار السنوات العشر، "أمهات أشجار المانجروف الموجودة في مصر يصل عمرها إلى آلاف السنين، نحن أعدنا تأهيلها وما زلنا نتوسع في الاستزراع" كما يؤكد دكتور خليفة لـ"العين الإخبارية".

على جانب سيارته نصف النقل التي يستخدمها لتوصيل فريق المانجروف للمواقع المختلفة- ارتكز سعيد محمد متأملاً عمراً كاملاً، ورفقة عاش معها في ظل "المانجروف"؛ تسعفه الذاكرة وهو يعود لعام 1985، حيث ذلك الباحث الذي ذكر أمامهم اسم الشجرة لأول مرة "كان لسه موضوع جديد ومكناش نعرف إنه هيكبر بالشكل ده".



لا يتعامل السائق السبعيني مع المانجروف وزراعته كعمل يقتات منه، ولكنه يعتبر الشجرة بمثابة المُعلم، بداية من فضل المناحل على ضفتي أشجار المانجروف التي أخبرته كيف يفرق بين العسل الطبيعي والمغشوش، وصولاً للتدبر في قدرة الخالق بإنبات الغابات وسط المياه المالحة وكيف خلق حولها حياة كائنات أخرى في صورة بديعة.



هذا ما تؤكده "الفاو" فيما يتعلق بالمانجروف، حيث تتداخل العديد من الكائنات المفترسة مثل سمكة الديك مع بذور أو موائل المانجروف وقد تقضي سلاحف البحر فترة من سنواتها الأولى داخل تلك الأشجار وتزور أحياناً الزواحف الأرضية مثل ثعبان أبوسيور، فيما يجذب النبات طيوراً كثيرة مثل بالشون الصخر وأبو معلقة والنسر العقابي، بالإضافة إلى آلاف الطيور المهاجرة، وتأتي بعض الثدييات للتغذية أو الاصطياد مثل الغزال المصري وقطة الرمال بالإضافة للعديد من أنواع القوارض والدرافيل، وتعد غابات المانجروف مصدراً غذائياً للأسماك والطيور، وتعيش اللافقاريات مثل النجم الشوكي وقنديل البحر بين جذور المانجروف، بالإضافة للجمبري ذي الأهمية التجارية، وتتغذى السرطانات والطحالب على البادرات والأوراق.

"المانجروف كنز وراثي ومعجزة نباتية".. باتت تلك الكلمة الدارجة على لسان الذين اقتربوا منه، ما إن يزوره أحدهم مرة حتى تطلبه ندّاهة المانجروف مرة أخرى. خاض دكتور أحمد زايد، رئيس قسم الجغرافيا بكلية الآداب جامعة أسيوط، تجربة بحثية مميزة مع النبات، وكتب عنها في دراسته المنشورة بكلية الآداب جامعة القاهرة عام 2014.

كثيراً ما فكر دكتور زايد في هيئة أشجار المانجروف الممتدة في مصر على ساحل البحر الأحمر، وتساءل لماذا تختلف طبيعة تشكلها في مصر عن باقي الدول التي تنمو فيها "ففي مصر يمكننا أن نجد في بؤرة بضع أشجار مانجروف ثم عقب 300 متر تختفي تلك الأشجار"، دفع ذلك دكتور زايد إلى عمل دراسة عن جيوموفولوجية المانجروف بالسواحل المصرية "وجيوموفولوجية تعني تشكل الأرض أو تضاريسها المختلفة وكانت الدراسة عن مدى ارتباط تشكل الأرض بغابات المانجروف الموجودة في مصر".

خلال عام من الرصد الميداني، استطاع زايد معرفة أهم ملامح غابات المانجروف في مصر، ووجد أن أشجار المانجروف تحتاج إلى بيئة هادئة تساعدها على التكاثر، فحينما تسقط بذور المانجروف في المياه لتبدأ النمو لن تتحمل الأمواج أو التيارات الشديدة داخل المياه وهنا يأتي دور جذور المانجروف التي تعمل كحائط صد يحمي البذور.

يعتبر زايد أن المانجروف "نبات يستحق التأمل" حسب قوله، فبسبب وجوده على سواحل البحر الأحمر تقوم الأوراق بعملية تنقية للأملاح "فتصبح المياه التي يمتصها النبات آسنة وهي مياه ليست عذبة تماماً لكنها أقل ملوحة من مياه البحر"، ويحدث ذلك بعدة طرق يذكرها زايد لـ"العين الإخبارية"، فأوراق المانجروف بها ثغور تطرد الأملاح خارجها كما تقوم جذور النبات بتركيز الأملاح في الأوراق المعرضة للتساقط كي يتم التخلص منها، بينما نجد أنه في نوع الريزيفورا تحتاج البذور أو البادرات للبقاء على الشجرة الأم لفترة معينة كي تستطيع الصمود قبل السقوط في التربة أسفل المياه وأثناء وجودها على الشجرة تستخلص المياه العذبة من رطوبة الجو.

حتى منتصف التسعينيات كانت بيئة المانجروف تتعرض للرعي الجائر في مصر، خاصة منطقة حماطة "كان السكان المحليون يتركون الإبل تدخل المنطقة لتأكل من الأشجار" كما يؤكد دكتور خليفة، ما أدى فيما بعد لاستصدار قانون البيئة 4 لعام 1996 الذي ضم كل مناطق المانجروف لزمرة المحميات الطبيعية في مصر، كما يقول نقيب الزراعيين.


المصدر: منظمة الأغذية والزراعة بالأمم المتحدة (الفاو)
دراسة عن جيوموفولوجية مستنقعات المانجروف على ساحل البحر الأحمر في مصر والمنشورة في مجلة كلية الآداب جامعة القاهرة





لكن الأزمة لم تكن في استصدار القانون فقط "علمنا من اللحظة الأولى أن نشر الوعي بين السكان المحليين يضاهي في أهميته تطبيق القانون"، وهو ما ركّز عليه دكتور خليفة وباحثون آخرون منذ عام 2007، إذ قاموا بعمل تدريبات متفاوتة في الأماكن المحيطة بالمانجروف عن أهمية النبات وكيفية الحفاظ عليه وحتى الاستفادة منه، وهو ما نجحوا فيه "الآن لدينا الكثير من العمال من السكان المحليين الذين يعرفون جيداً أهمية المانجروف لبيئتهم وكذلك الحال مع الصيادين بالمناطق المحيطة بالمانجروف".



رحلة المانجروف جماعية بالدرجة الأولى، إذ وصل عدد الباحثين بالمشروع الآن إلى 7، بالإضافة لـ10 مهندسين زراعيين و20 عاملاً من السكان المحليين.

منذ بداية المشروع لم يفارق المهندس عبدالناجي سكوت، وكيل مديرية الزراعة الأسبق بالبحر الأحمر، دكتور سيد خليفة، فبجانب خبرته الأكاديمية في المانجروف، لكنه احتك بتجارب مُلهمة لزراعته خاصة في كينيا.

انحياز سكوت لذلك النبات ليس قائماً على فوائده فقط "هو أيضاً بيئة حاضنة لكل الكائنات البحرية"، خاصة الأسماك الصغيرة أو ما يُسمى "الزريعة"، التي تعيش في المياه الدافئة أسفل أشجار المانجروف "التي لا يزيد ارتفاعها على 50 سم وتكون تيارات المياه داخلها بسيطة فيما يشكل الشجر عازلاً يحمي الأسماك وبالتالي تنمو في أمان دون أن يجرفها التيار أو تأكلها المفترسات" لتصبح فيما بعد قادرة على التحرك للبحر المفتوح.

طوال رحلة زايد، رئيس قسم الجغرافيا بآداب أسيوط، في العمل على المانجروف "كنت أستكشف قدرات هائلة لهذا النبات على التكيف"، فرغم أن المانجروف في العالم بين خطي عرض وطول 25 فإن المانجروف في محمية نبق على سبيل المثال موجود على خط طول 27 وينمو بشكل جيد، كما أنه بالتأمل في النبات نجد أنه حتى طريقة نموّه مرتبطة بالتكيف، فأشجار المانجروف تحتوي على نوعين من الجذور؛ أولها الجذور الداعمة وهي تعمل على تشبث الشجرة بالحياة، أما النوع الثاني فهي الجذور التنفسية التي تساعد على تنفس النبات حين تغمر المياه الشاطئ في أوقات المد، ويجعل ذلك جذور أشجار المانجروف الممتدة حولها بشكل أفقي كأبنائها "وبعض الأشجار الكبيرة يمكن أن يصل امتداد جذورها إلى 50 متراً" حسبما يضيف زايد، موضحاً أن تلك الجذور تصبح حائط الصد من الرواسب التي تأتي مع المد ما يمنع تآكل الشاطئ ونحته.

ليست الجذور فقط؛ فالبيئة البحرية للمانجروف غنيّة؛ لذا يحرسها الصيادون الذين يعيشون حوله؛ كذلك يفعل عيد حسين فهو والمانجروف رفيقا طريق حتى من قبل أن يعرف اسمه، ولد في سفاجا وامتهن الصيد وهو في عمر العاشرة "أنا واعي عليه -المانجروف- من زمان من أيام ما الجمال كانت بتاكله".

58 عاماً بالتمام والكمال، وعم عيد لا يبرح الصيد، وبقيت شجرة المانجروف كتميمة حظ، كلما وقعت عينه عليها يعرف أن الرزق آتٍ لا محالة؛ تارة في شلاتين وأخرى في مرسى علم وثالثة في سفاجا، وكلما التقى المانجروف شعر بحنين وبات خبيراً بشؤونه وبأنواع السمك الذي يسبح حول أشجاره "في شهر خمسة وستة بيكون فيه سمك بوري وشهر تمانية وتسعة بيظهر الدينيس".

في دراسة منشورة بدورية "ساينس دايركت" عام 2014، يسرد الباحثان محمد أبو الرجال ونسرين إبراهيم من المعهد الوطني لعلوم البحار والمصايد، دور نبات المانجروف في تكوين حاضنة طبيعية للكائنات البحرية الموجودة في بيئتها خاصة صغار الأسماك التي تعيش داخل الشعاب المرجانية.

بدءاً من عام 2010 تم صيد الأسماك خلال 3 مواسم مختلفة لغابات المانجروف بثلاثة مواقع في مدينة القصير ومنطقة حماطة في محمية وادي الجمال وخليج القلعان بمرسى علم، جمع الباحثون 269 سمكة صغيرة تمثل 21 نوعاً، تم جمع تسعة أنواع لأول مرة من مناطق المانجروف في البحر الأحمر المصري. كما كانت -وفقاً للدراسة- معظم الأسماك التي يتم جمعها ذات أهمية اقتصادية.

وقالت الدراسة إن العديد من الكائنات البحرية الموجودة في محيط المانجروف تعتمد على النبات للحصول على الغذاء اللازم خلال مرحلة نموها، خاصة أسماك الشعاب المرجانية، إذ تضاعف عددها بعد نموها حول المانجروف.



واحتلت منطقة حماطة المركز الأول في تنوع الأسماك وعددها، إذ تم جمع 193 سمكة منها تمثل 71.7٪ من جميع الأسماك في المناطق الثلاث و81٪ من الأنواع التي تم جمعها من المواقع الثلاثة، فيما أكدت الدراسة أن المانجروف هو ثاني أكثر بيئة آمنة للأسماك الصغيرة بعد الشعاب المرجانية.

حاولت الدراسة تفسير سبب وفرة الأسماك الصغيرة والقشريات وكان ضمن التفسيرات المطروحة أن بيئة المانجروف آمنة من المفترسات لتلك الأسماك، إذ تنمو جذور النبات في المياه الضحلة كما توفر درعاً يحمي من التيارات الشديدة التي تجرف الكائنات الصغيرة، وبعد نموّ تلك الأسماك خلال عام تستطيع شق طريقها بأمان إلى الشعاب المرجانية في البحر.

وجدت الدراسة أيضاً أن 85% من الأسماك التي تم جمعها ذات قيمة اقتصادية وتجارية مرتفعة، ومنها أسماك النهاش وسمك السحلية وسمك اللبن وسمك الماعز والباراكودا والأرانب.

ثمة معايير واضحة للصيد في غابات المانجروف، تُحددها هيئة الثروة السمكية طبقاً لمواسم التزاوج ووضع البيض، التي عادة ما تكون من شهر مايو/أيار إلى يوليو/تموز من كل عام "ووقتها يتم منع الصيد مؤقتاً خوفاً على الحياة البحرية" كما يقول المهندس عبدالناجي سكوت.

مع الوقت، بات الصيادون على دراية بالتعامل مع المنطقة دون مساس ببيئة النباتات والأسماك، إذ يعلم السكان المحليون أن المانجروف يحتاج على الأقل إلى 3 سنوات ليصبح منطقة صالحة للصيد، يضيف سكوت أن "صياد البحر الأحمر صياد بيئي بالدرجة الأولى لا يُلاحق أسماكاً لن يأكلها أو سيكون اصطيادها مضراً بالبيئة فيما بعد"، وذلك ما ورثه عيد أباً عن جد، وعلّمه لأبنائه الثلاثة الذين يرافقونه متشبثين بالشباك ورزق البحر "مش كل السمك اللي بيطلع جنب المانجروف ينفع للأكل.. اللي بينفع بناخده واللي مش للأكل بنرجعه المياه تاني".

حالة الألفة التي وُلدت بين الفريق هي ما هوّن أيام العمل الشاقة، اضطروا أحياناً لقضاء ليالٍ عدة حول المانجروف لأخذ العينات، كانت أوقاتاً مليئة بالبهجة والاكتشاف؛ الجميع له دور؛ سواء الباحثون والعُمال والمهندسون الذين تعرّفوا على المانجروف بالصدفة البحتة، كما حدث مع المهندس سنوسي.

"الشجر في مقام ولادي أنا بربيه.. من وهو بذرة كأنها نطفة ونزرعها في الصوبة لحد ما تكبر قدام عنينا" بعين يسكنها الحب يلخص سنوسي علاقته بالمانجروف.

رغم وصوله إلى سن المعاش قبل ست سنوات، لم تنقطع صلة سنوسي بالمشروع "عشان ليا خبرة في زراعة المانجروف بيستعينوا بيا مقابل مكافأة شهرية بسيطة"، لا يعتبر المهندس الذي تخرج في عام 1981 أن وجوده في مشروع المانجروف بمثابة عمل مضنٍ "بحس إني في حاجة جميلة وشيقة وبنزرع ونصطاد سمك".

بعد فترة أصبح سنوسي مُعلماً للعمال؛ يشرح لهم ماهية المانجروف وكيفية إنتاج البذرة وزراعة الشتلات "إحنا مش بنستخدم أي مواد كيميائية كله طبيعي"، ينبههم إلى عدم قطع الأوراق والأفرع، يخلق بينهم وبين المانجروف صلة، علمهم أن دورهم كبير، لذا لم يكن مستغرباً أن يؤمن العامل بدوره في حماية الطبيعة "كان زمان ناس تقول المانجروف ملوش لزمة.. دلوقتي الكل عارف إنه مهم.. أقلها لو نزلت سيول فهو مصد طبيعي وبيعمل تثبيت للشواطئ".

لمواجهة تغير المناخ وآثاره السلبية، تبنت 197 دولة اتفاق باريس في مؤتمر الأطراف 21 في باريس في 12 ديسمبر/كانون الأول 2015. دخل الاتفاق حيز التنفيذ بعد أقل من عام، ويهدف إلى الحد بشكلٍ كبير من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية والحد من زيادة درجة الحرارة العالمية في هذا القرن إلى درجتين مئويتين مع السعي إلى الحد من الزيادة إلى 1.5 درجة.

ويشير الموقع الرسمي للأمم المتحدة إلى أن اتفاق باريس يمثل بداية تحول نحو عالم منخفض الكربون - وما زال هناك الكثير مما يتعين القيام به. يعد تنفيذ الاتفاق أمراً ضرورياً لتحقيق أهداف التنمية المستدامة لأنه يوفر خريطة طريق للإجراءات المناخية التي من شأنها تقليل الانبعاثات وبناء القدرة على الصمود مع تغير المناخ.





"القلب فاتح لكل إنسان" هي العقيدة التي يعيش بها السائق سعيد محمد صاحب السبعين عاماً، يمتن لتلك الأيام التي أكسبته إخوة "الموضوع مش دم ونسب.. طالما اتعرفنا وأكلنا مع بعض عيش وملح نبقى إخوات"، لذا لا تتوقف الصلة بين رفاق المانجروف عند حدود العمل ولكنهم يجتمعون كل فترة في حضرة صغيرة يذكرون الله بقلوب صافية "وإحنا في حماطة مبيكونش في طاقة غير للشغل وبتكون الحضرة هدنة نصفي فيها نفوسنا".

في البدء كان سعيد يعمل سائقاً على سيارة الحكومة ضمن الوفد القائم على مشروع المانجروف، قبل أن يشتري سيارته النقل الخاصة "بطلع استرزق منها وباقي الأيام بساعدهم هنا في المانجروف".

يبتسم الرجل الصعيدي وهو يحكي عن أبنائه الذين اصطحبهم غير مرة إلى حماطة لمعاينة المانجروف "حبوا الموضوع وفرق معاهم علشان شغلهم في السياحة".

بينما يقول دكتور محمد سالم، مدير عام الإدارة المركزية للمحميات الطبيعية بوزارة البيئة، إنه تم عمل تدريب مكثف لكل العاملين بالمجال السياحي ببرامج الإرشاد المدعومة بجميع المعلومات التي تهم السياح، وفي القلب منها التفاصيل الخاصة بالمانجروف كونها من الأكثر جذباً "المانجروف وبيئته المحيطة حكاية ملهمة وبتجذب كتير من السياح".

كالبنيان المرصوص يعيش رجال المانجروف؛ الكل يتعاون بإخلاص شديد، يقول المهندس سنوسي: "لما نبقى بنخدم نفسنا في أكل وشرب ولبس والضحكة مبتفارقناش لازم نبقى إخوات وأكتر".

في العام نفسه الذي تعرف فيه سنوسي على المانجروف، بدأت قصة دكتور أحمد الخولي، نائب الرئيس السابق لمركز بحوث الصحراء والخبير البيئي، مع النبات، حينها أنجز بحثاً عن نوعي المانجروف الموجودين في مصر لمعرفة خصائص كل واحد منهما ومحاولة استزراعهما رفقة دكتور سيد خليفة.

كلما تعمقت رحلة الخولي مع المانجروف اكتشف مفاجآت جديدة، وهذا ما دفعه لعمل أبحاث عدة؛ آخرها نُشر في مجلة "ريسيرش سكوير" عام 2022 لمناقشة كيف يمكن للمانجروف الحماية من الملوثات البيئية.





عام 2015 وبينما يجري الخولي جولة ميدانية بمنطقة حماطة لاحظ وجود بعض الزيوت الثقيلة على أطراف الشاطئ، وبالفحص تبين أن تربة المانجروف تحتوي على بعضها، وبعد البحث وجد الفريق أن جذور المانجروف لها قدرة كبيرة على امتصاص تلك الملوثات والمعادن "كما أنه كلما زاد عُمر الشجرة زادت قدرتها على امتصاص تلك الملوثات والتعامل مع التهديدات".

من المشاهدات التي لفتت انتباه دكتور أحمد الخولي أيضاً أن بعض الكائنات الدقيقة الموجودة في تربة المانجروف لها دور مهم كمسمدات أو مخصبات حيوية طبيعية "لذا حصلنا على عينات من مواقع عدة وندرسها حالياً لمعرفة كيف يمكن استخدامها فيما بعد"، ويضيف الباحث والخبير البيئي أن المانجروف له دور ضخم في امتصاص وتثبيت الكربون، إذ تمتص الغابات 5 أضعاف الكربون التي تمتصها أشجار اليابسة، وتقوم جذور المانجروف بتكسير الكربون وامتصاصه ثم ينتقل إلى التربة "فيصبح لدينا وقود حيوي جاهز للاستخدام وغير ضار بالبيئة كالوقود الأحفوري".

المصدر: منظمة الأغذية والزراعة بالأمم المتحدة (الفاو)
دراسة عن جيوموفولوجية مستنقعات المانجروف على ساحل البحر الأحمر في مصر والمنشورة في مجلة كلية الآداب جامعة القاهرة


المصدر: منظمة الأغذية والزراعة بالأمم المتحدة (الفاو)
دراسة عن جيوموفولوجية مستنقعات المانجروف على ساحل البحر الأحمر في مصر والمنشورة في مجلة كلية الآداب جامعة القاهرة

كل تلك المزايا التي يعدّدها الخولي جعلته يهتم بربط بيئة المانجروف بالمجتمع المحلي "فكلما انتشر الوعي حافظ المواطنون على الغابات بصورة أوسع"، أقام الخولي وزملاؤه العديد من الدورات التدريبية لطلاب البحر الأحمر عن المانجروف، فيما استطاع نشر معلومات أكبر عن المانجروف في المحميات الطبيعية وبعض المنتجعات السياحية "قمنا بطباعة بروشور ووزعناه على تلك المنتجعات للتعريف بالمانجروف باللغتين العربية والإنجليزية"، كما قام الخولي بطباعة منشورات صغيرة كُتب عليها "معا من أجل الحياة".

تلك المنشورات كان الهدف منها أن يطالعها السائحون الذين يزورون منطقة العلمين سنوياً لإحياء ذكرى قتلى الحرب العالمية الأولى "وكنا نطلب منهم أن يغرسوا شجر المانجروف بينما هم في العلمين ومقابل ذلك سنقوم بعمل جدار تذكاري بأسمائهم ويمكنهم العودة كل عام لرؤية النبات بعدما كبر"، لاقت الفكرة إعجاب الكثيرين وقاموا بتنفيذها كما كررها الفريق مرة أخرى في إحدى زيارات ملكات جمال العالم لمصر "في موقعي سفاجا وحماطة" إذ قمن بزراعة المانجروف أيضاً "كل ذلك جزء من هدفنا في مشروع استزراع المانجروف أن نقرّب المواطنين لأهمية ذلك النبات".

ينظر الباحثون للمانجروف بنظرة اقتصادية أيضاً؛ فبينما تستخدمه بعض الدول لغرض السياحة تقوم دولة مثل كينيا بتصدير عسل المانجروف لجودته المرتفعة وهذا ما سعى له أساتذة الزراعة بجامعة جنوب الوادي بالتعاون مع أكاديمية البحث العلمي ومركز بحوث الصحراء.

تُزهر أشجار المانجروف مرتين سنوياً؛ هذا ما ركّز عليه دكتور كارم مهنى، عميد كلية الزراعة بجامعة جنوب الوادي، خلال بحثه عن إمكانية استخدام الأشجار لإنتاج مناحل العسل، لم يكن الأمر سهلاً خاصة دخول النحل إلى المحميات "لكننا قدمنا وقتها خطاباً مفصلاً للهيئة المسؤولة يؤكد أن النحل لا يثقب ثمرة ولا يحفر تربة، فالنحل يأخذ الرحيق من الثمار الحديثة ولا يؤذي الأزهار أو يجعل الأشجار تذبل"، بعدها حصل فريق دكتور كارم على موافقة من وزارة البيئة لبدء تنفيذ المناحل.







قصة مناحل المانجروف المصرية

Image

قصة مناحل المانجروف المصرية

مايو 2020 تم تطبيق أول نموذج لعشرين خلية نحل في مانجروف منطقة سفاجا

Image

تم التعاون بين أكاديمية البحث العلمي ومركز بحوث الصحراء وجامعة جنوب الوادي للعمل على المشروع

Image

كان الهدف هو الاستغلال الأمثل للمانجروف وتحقيقة التنمية المستدامة ومشروعات صغيرة مربحة للسكان الموجودين حول المانجروف

Image

تم تدريب مجموعة من السكان المحليين على التعامل مع النحل وقطف العسل

Image

خرجت القطفة الأولى في يوليو 2020 بتسعين كيلو من العسل عالي الجودة

Image

فيما خرجت القطفة الثانية في أغسطس 2020 بستين كيلو

Image

تم طرح العسل للبيع في المنافذ بسعر 100 جنيه للكيلو

Image

امتد المشروع على مساحة 2 كيلو متر

Image

تم تمويله من أكاديمية البحث العلمي وانتهى مطلع 2023 فيما يسعى الفريق لتطبيق النموذج في مواقع أخرى للمانجروف





‎قبل العمل كان علينا تدريب السكان المحليين بالمنطقة لنتأكد أن المناحل سيتم الحفاظ عليها فيما بعد"، وهذا ما قام به فريق جامعة جنوب الوادي مع بعض السكان في منطقة سفاجا بالبحر الأحمر، استهدف المشروع الشباب "وكان هدفنا أن يستفيدوا اقتصاديا من المشروع وبالفعل انتجنا في القطفة الأولى ٩٠ كيلو عسل وعادت الأرباح للسكان المحليين الذين عملوا معنا في المشروع".

لكن ما الذي يجعل المانجروف بيئة صالحة لوجود المناحل؟

يقول عميد كلية الزراعة بجامعة جنوب الوادي إن وجود أشجار المانجروف في بيئة شبه خالية من أي ملوثات أو مبيدات أو عوادم يجعلها الأفضل لإنتاج عسل طبيعي وممتاز غذائياً "الأشجار أيضاً معزولة داخل المياه ما يرفع تلك الدرجة من الحماية".

عالم المانجروف مُتسع؛ فكما يصلح لأن يكون حاضنة لجميع النباتات فهو يجمع أصحاب المهن المختلفة كما تتفاوت أعمار العاملين حوله.

رغم سنه الصغيرة بات قلب كريم حسن معلقاً بالمانجروف، لم يكمل عامه التاسع عشر بعد، غير أنه يداوم على الذهاب رفقة والده المهندس ضمن فريق عمل المانجروف منذ أن كان ابن اثنتي عشر ربيعاً "الشغل هنا ممتع كأني في سياحة كل مرة نسافر منطقة وفي كل مرة أتعلم حاجة جديدة".

عشق كريم المانجروف، تابع تفاصيله بتأنٍّ، تعلم كيف يُنقي النبات نفسه من المياه المالحة، شارك المزارعين في تعبئة أكياس الطمي، ونثر معهم البذور، استطاع أن يفرق بين البذور الصغيرة والطويلة، وقف معهم داخل الصوبة وانتظر معهم جمع الشتلات ونقلها لموقع آخر.

حينما يمر دكتور سيد خليفة على مواقع المانجروف، يشعر بالفخر لما حققه الفريق على مدار عشر سنوات "يمكننا ملاحظة أن السائحين المصريين الذين يذهبون لمحمية رأس محمد أو حماطة باتوا أيضاً يعرفون عن المانجروف ويطلبون من العاملين بالمحمية إمدادهم بالمزيد من المعلومات"، ومع زيادة الوعي تزيد رُقعة المانجروف الموجودة، فبعدما كانت 1150 فداناً قبل بداية مشروع الاستزراع وصلت حالياً إلى 1500 فدان في جميع المواقع.

الوعي بالمانجروف هو ما تحاول وزارة البيئة في مصر نشره من خلال طرق عدة؛ أهمها السياحة البيئية التي تؤدي إذا ما تم استغلالها بصورة مثلى إلى انتعاش اقتصادي؛ إذ يقول الدكتور محمد سالم مدير عام الإدارة المركزية للمحميات الطبيعية بوزارة البيئة إن زيارة الأماكن الموجود بها المانجروف على قائمة البرامج السياحية للزائرين، مشيراً إلى أن جميع مناطق المانجروف تقع تحت منظومة المحميات الطبيعية.



وأوضح سالم لـ"العين الإخبارية" أن حصيلة الاستفادة من زيارة المحميات الطبيعية تضاعفت من 30 مليون جنيه إلى 150 مليون جنيه خلال العام الماضي، ومن المستهدف مضاعفة الرقم خلال عام 2023، بحسب خطة وزارة البيئة، وذلك بعد اعتماد مجموعة من القواعد المنظمة لدخول الزائرين بشكل لا يخل بالحفاظ على المحميات واستدامتها كمورد لا يقدر بثمن.

"في المستقبل الناس هتيجي هنا وتسأل مين اللي عمل العظمة دي"، يسعد سنوسي وعماله بما أنجزوه، يتذكر عندما كان يقضي 8 ساعات كاملة للوصول لحماطة في طريق غير معبّد لكنه كان يقول في قرارة نفسه "طالما مقتنعين باللي بنعمله كل حاجة تهون.. المهم الناتج النهائي".

رغم وجود معوق أساسي حالياً وهو انتهاء مُدة تمويل المشروع، يقول دكتور خليفة: "لكني على يقين أننا سنجد طريقة لنستكمل رحلتنا والأكيد أننا لا نتخلف عن مراقبة المواقع والاهتمام بها"، لا سيما وأن مشروع المانجروف كان له وجود واضح خلال قمة المُناخ التي عُقدت في شرم الشيخ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي "باحثون من دول عدة على رأسها كوريا الجنوبية واليابان، تحدثوا عن أهمية المانجروف لحماية البيئة وضرورة تكاتف الدول التي تسمح بيئتها بزراعته كي يتم الاهتمام به بصورة أكبر".

رغم انتهاء بحثه عام 2014 غير أن دكتور أحمد زايد ما ينفك يزور المانجروف، حتى إنه اصطحب طُلاب قسمه قبل عامين إلى موقع منطقة أبو غصون في مرسى علم ليرصدوا ويشاهدوا حالته "وأعتبر أن ذلك جزءاً ضرورياً من دوري لنشر الوعي عن ذلك النبات المهم".

خلال الخمسين عاماً الماضية اختفى أكثر من نصف المانجروف في العالم حسبما تقول منظمة الفاو، فبينما يتحسس الجميع خطاهم في ظلام التغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة وتفاقم تأثير الملوثات وانبعاثات الكربون لا يبدو أن هناك سبيلاً آخر غير الاعتناء بما أفسدته اليد البشرية وتأمين المزيد من الغطاء النباتي لعله يكون واقياً. الطريق طويل أمام استزراع المانجروف في مصر، يحفّه نقص الإمكانات أحياناً والتهديدات الطبيعية أوقاتاً أخرى، لكنه يبقى الأمل الأكبر للتغيير وحكاية سعيدة يكتبها رجال المانجروف لتعيشها الأجيال القادمة.





قصة: دعاء الفولي وأحمد الليثي
تصوير: أحمد جمعة
إنفوجرافيك: نجم المتولي
مونتاج: مصطفى عيسى
صوت: عائشة الخراط
تصميم وبرمجة: مصطفى عثمان